الحمد لله الذي هدانا سواء السبيل ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على إمام الأنبياء وسيد المرسلين ، نبينا محمد الأمين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن استن بسنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين .
هذا البحث الموسوم بـ ( فن الإلقاء والإنشاد ومهاراتهما الفرعية ) قد جاء استجابة لنداء جامعة أم القرى بمكة المكرمة للمشاركة في مؤتمر علوم العربية في التعليم الجامعي والذي أقيم في عام 1433-2012م . وهو في صميم المحور الأول (مهارات علوم العربية) وقد تم من خلاله الاستقراء لهذين الفنين بوصفهما الوسيلة الأولى التي وجدها العربي للتفاعل مع من حوله حتى تملّك الفصاحة التي لا تنال إلا بتحصيل الملكة اللغوية وتنميتها بالإكثار من الإلقاء والممارسة والحفظ والسماع .
وملكة الإلقاء من الممارسات الفنية المترجمة لأفكار الإنسان ومشاعره، ومن هنا كان الدافع للاهتمام بهذا الفن والبحث عن مهاراته وكيفية اكتسابها .
والبحث ـ يهدف إلى رصد هذا الفن وبيان مدى ارتباطه بالشعر العربي قديماً وحديثاً مع بيان أثر الصوت وجماله في جذب السامع وجعله أكثر لصوقاً بالنص الشعري إلى جانب أنَّ الشعر عندما يتوافر له جمال الصوت مع روعة الأداء يكون أدعى ليقظة الذهن ، وتنظيم العقل ، وإنعاش العاطفة .
والإلقاء فن التعبير عما يختلج في النفس ابتغاء الإفهام والتأثير في المتلقّي .والمنهج الذي اتبعه الباحث المنهج الوصفي التحليلي مع الميل إلى المنهج الاستقرائي في تتبع هذا الفن في التراث الأدبي العربي في القديم والحديث وهيكل البحث قد تمّ بناؤه على النحو التّالي :
التمهيد : وتضمن التعريف بفن الإلقاء ورحلته بين الفنية والعلمية .
المبحث الأول : وقد قصرناه على أنواع الإلقاء ، ومستويات الأداء الفني والعلاقة بين فن الإلقاء والخطابة وارتباط بعضهما ببعض في التراث الأدبي العربي .
المبحث الثاني : وضمنه الباحث موضوع الإنشاد ، تعريفه وارتباطه بالشعر في القديم والحديث مع ذكر شعراء عُرفوا بجمال الصوت وروعة الأداء .
الخاتمة : وتضمنت ملخصاً للبحث وما فيه من نتائج وتوصيات .
يُعد بحث العلاقات السياقية من المرتكزات المهمة في الكشف عن طرق البناء النصي. انشغل به عدد كبير من الباحثين في علم اللغة النصي أو لسانيات النص، في بحث أدوات بناء النص، واتّساقه وانسجامه، منهم: فان ديك، وروبرت دي بوجراند، ودرسلر، وبتوفي، إذ حاولوا جميعًا الكشف عن العلاقات النصية؛ لأنها هي التي تدعّم البنية النصية، التي تقوم على التماسك والانسجام؛ نظراً لأهميتها في تحقيق ما اصطلحوا على تسميته "بالكفاءة النصية"، جال في خاطرى سؤال هل الحديث الشريف مؤهل لهذه الكفاءة النصية ؟ ولكي تتم الإجابة بحثت في السياق من خلال الاحاديث الصحيحة، وما يقوم به أي باحث من الباحثين في هذا المجال اللساني، هو "توضيح سياق الجمل الدلالي، الذي ينبّئ عن خصائصها التركيبية والمعنوية" ، أي: الاعتماد على العلاقات الدلالية التي تقوم بين الألفاظ على مستوى الجملة، وبين الجمل على مستوى النص ، فيكون السياق مسؤولاً عن كيفية الترابط والتعليق بين المركبات النحوية الدلالية لسلسلة التتابعات الجملية المولّدة أصلاً من مقصدية النسج النصي المحكم؛ هذا على اعتبار نحو الجملة هو اللبنة الأساسية للنحو النصي، وقاعدته الصلبة التي ينطلق منها.
كان لعلماء الحديث اهتمامٌ بالغ بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حفظاً وضبطاً لمتونها، وفحصاً وتمييزاً لنقلتها، وكشفاً وبياناً لفقهها، وحلاً لغوامض ألفاظها.وقد جعلوا للتعامل مع ألفاظها قواعد تضبط مسالك الفهم وتضيء مسارب الاستنباط، وتعصم من مزالق الزلل والضلال، فمن أنواع علوم الحديث التي تمثل معالم كبرى في طريق الفهم السديد: علم مختلف الحديث، علم ناسخ الحديث ومنسوخه، علم أسباب ورود الحديث، علم غريب الحديث، فهذه أنواع رئيسة من علم مصطلح الحديث. وثمة قواعد مهمة لحسن الفهم للنص النبوي، جاء ذكرها في تطبيقات أهل العلم عند شرح أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن تلك القواعد: اعتبار دلالة السياق في فهم النص النبوي، وهي قاعدة جليلة لها تأثيرها في جودة الفهم. وقال الإمام ابن القيم:"السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته، والسياق من المصطلحات العصية على التحديد الدقيق([1])، ولذا اتجه بعض الباحثين إلى التعرف على خصائصه وفهم عناصره، وبيان أثرها في تحديد المعنى، ولم يقف عند التباس التعريف([2]).
تم اختيار الأحاديث القدسية للدراسة والتحليل والتطبيق؛ لتضمنها مجموعة من النماذج الوظيفية للعلاقات السياقية بطريقة ملفتة للنظر ومتميزة، كما أن الطرح الأسلوبي داخل نص الحديث فيه تميّز وفرادة، يُضاف إلى ذلك تميز أدوات التواصل والإقناع أيضاً. وقد اعتمد البحث في الجانب التطبيقي على الأحاديث القدسية التي اعتنى بنصّها وشرحها جمال عبد الغني مدغمش، وفي حدود الإطلاع تمت دراسة الأحاديث القدسية دراسة لسانية، وضع على عاتقها الكشف عن العلاقات السياقية ونماذجها الوظيفية في نص الحديث، فتكون هذه الدراسة قائمة لإنجاح هذا الهدف المشار إليه.
هدفت هذه الدراسة إلى دراسة العلاقات السياقية ونماذجها الوظيفية في الأحاديث القدسية الشريفة، لما لهذه العلاقات من أهمية كبيرة في بناء النص، واتّساقه وانسجامه.
([1] ) مجلة الإحياء التي تصدرها الرابطة المحمدية للعلماء ، و هي مجلة تهتم بالدراسات الإسلامية و الشرعية (54).
([2] ) البحث الدلالي عند الأصوليين(ص11).
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، والسائرين على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد تعدَّدت أوجه اختلاف القراءات ما بين تذكير وتأنيث، وذكر وحذف، وتقديم وتأخير، وقلب وإبدال ونحوها، ومن تلك الأوجه وجه الجمع والإفراد، وردت القراءة به في بعض كلمات القرآن الكريم قراءة متواترة، نجدها متفرقة ومنتشرة في مصادر القراءات ومراجعها القديمة والحديثة ،غير أنها لم تفرد بدراسة مستقلة؛ لذلك ارتأيت تتبع تلك الكلمات التي تواترت قراءتها بالجمع والإفراد عند القراء العشرة ورواتهم من طريقي الشاطبية والدرة، وجمعها وتوجيهها، وإخراجها في بحث مستقل يفيد القارئين المبتدئين، ويذكّر المقرئين المنتهين، إسهامًا مني في خدمة القرآن الكريم بقراءاته المتواترة، التي هي رحمة للعالمين.
أهمية الموضوع:
تنبع أهمية هذه الدراسة من كونها تبرز وجهًا من الأوجه التي يقع بها الاختلاف بين القراءات، من خلال إفراد وإيراد الألفاظ التي قرئت به، وبيان من قرأ بالجمع ومن قرأ بالإفراد، وتَحصِر وتُحصي كل الكلمات القرآنية التي قُرئت بالجمع والإفراد في القراءات العشر المتواترة، وتصف كيفية رسمها في مصاحف الأمصار، وتوجّهها، وتبرزها في بحث مستقل عن الأوجه الأخرى التي ما زالت حسب اطلاعي في بطون مصادر القراءات القرآنية ومراجعها.
مقدمة :
لقد فتح الله على الإمام ابن مالك فنظم ألفيته في النحو والصرف تلك المنظومة التي كان لها المكان البارز والقدح المعلى والشهرة الواسعة فلا تذكر كلمة الألفية إلا ويتبادر إلى الذهن أنها المعينة فحفظت عن ظهر قلب وصار كثير من ألفاظها أمثلة على ألسنة العلماء والطلاب، وشرحها عدد من الأعلام كلهم أجادوا وأفادوا ومن بين هؤلاء ابن عقيل الذي نال حسن البيان وروعة التنسيق، وجودة التصنيف، وحسن التأليف؛ فسلك طريقا وسطا بين الإيجاز والإطناب، و المطول والمختصر؛ فوجد شرحه الشهرة والقبول ونال الحظية من العلماء والرغبة من الطلاب فعكفوا عليه، ومالوا إليه، واكتفوا به عن غيره في شرح هذه المنظومة، ولقد وفق هذا الإمام في حشد الشواهد لهذه المنظومة والأدلة من القرآن الكريم بقراءاته ورواياته، ومن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم ومنابع الحكم، ومما قالته العرب من جميل نثر، وما نظمته من رصين شعر؛ فحفظت الشواهد التي أوردها، والأمثلة التي نقلها، كما كان الحال مع منظومة الألفية.
وكما فتح الله على الناظم والشارح فتح كذلك على الإمامين الإمام الشاطبي الذي نظم حرز الأماني ووجه التهاني المعروفة بالشاطبية في القراءات السبع، والإمام ابن الجزري الذي نظم الدرة في القراءات الثلاث المكملة للعشر.
والبحث هذا معني باستخراج ما أورده الإمام ابن عقيل في شرحه. شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك. من أدلة وشواهد من القراءات العشر المتواترة بغرض عزوها لقرائها والاستدلال لهم من الشاطبية للإمام الشاطبي والدرة للإمام ابن الجزري وتوجيه قراءاتهم من لغة العرب .
مقدّمة:
حمدا لله وصلاة ًوسلاماً علي رسوله وبعد؛ فقد كان أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد الأزدي (ت 285هـ) من أعلام لغة القرآن وعلمائها، فهو علم مدرسة البصرة الأكبر في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وكتابه (المقتضب) ثاني كتاب في النحو العربي بعد كتاب سيبويه، وصف باحتوائه علم مدرسة البصرة، ولا يكاد كتاب لاحق له في النحو أو التفسير أو توجيه القراءات يخلو من أخذ منه أو إشارة إليه.
وقد عني المبرّد بالقرآن وقراءاته في دراسته النحوية، فزادت شواهد القرآن والقراءات في كتابه (المقتضب) عن خمسمائة، وهو ما دفعني لإعادة قراءة تراث المبرّد، وخدمة هذا العِلم الذي أعشقه-النّحو-، وأحبّ ارتباطه الوثيق بعقيدتي، ومن هنا فكرت في هذا البحث (استشهاد المبرّد بالقراءات وتوجيهه لها في الجزأين الأوّلين من كتابه (المقتضب)). وهو موضوع تنبع أهميته من ارتباطه بأمر خطير هو اتّهام بعض المعاصرين للنّحاة بترك القرآن والطعن في قراءاته.
يتمثل سؤال البحث الرئيس ومشكلته في تقويم المآخذ على المبرّد في تعامله مع القراءات، وما أثّر به هذا التعامل منه ومن علماء البصرة عامّة في النحو، لأحقّق ذلك عبر أهداف، هي: استقراء القراءات الواردة في جزأي المقتضب الأوّلين ببيانها وتوضيحها، وتقويم تقديره للقرآن وقراءاته في الاحتجاج النّحويّ والتقعيد، واختبار دعوى إبعاده القراءات عن الدرس النّحويّ ومهاجمتها. وألتمس لذلك منهجاً وصفياً تقويمياً؛ أحدّد فيه الموضوع النّحوي، والقراءة الواردة فيه وفق تعبير المبرّد، وما قاله القرّاء عن وجوه أدائها، مستدعياً ما أثير حولها من قدماء ومحدثين، وما انتهت إليه القواعد في المسألة، ومدى التزام القاعدة بتوجيه القراءة أو بناء القاعدة عليها. وتيسيراً للعرض أقدّم مسائل الأفعال تليها مسائل الأسماء في مبحثين بعد تمهيد عن المبرّد وكتابه وما أخذ عليه في القراءات وعلى قومه مما يشمله، وألحق المبحثين بخاتمة فيها تقويم لما انتهى إليه البحث. ولا أنشغل بكثرة كلام منّي بين نصّ المبرّد وما يرد عن مسألته، بل أختصر العبارة لأقصى ما يمكنني، لأنظر للجدل في المسألة وأحكم للمبرّد أو عليه بإنصاف، إلا أن بعض المسائل قد يطول فيها النظر لحاجة البيان والإيضاح للفكرة، ولحدّة الخلاف بما يستدعي تعدد المتداخلين.
راجعت قبل بدء الكتابة بحثاً لمحمد إبراهيم عبادة عن (الشّواهد القرآنية في كتاب سيبويه) أصدره في كتاب عن مكتبة الآداب بمصر عام 2002م، وفكّرت أولاً أن يكون البحث في الشّواهد القرآنية ويعرض خلالها للقراءات كمنهجه، لكنّي وجدته سيطول ويخرج عن مبتغاي، ونظرت في دراسة الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة عن المبرّد في صدر تحقيقه للمقتضب فوجدت فيها ما ذكره في كتابه (دراسات لأسلوب القرآن) من هجوم على المبرّد، فكان مع ما تجده في التمهيد عن عبد العال سالم مكرم وأحمد مكي الأنصاري وأحمد عبد الستّار الجواري من معزّزات أسئلة البحث، التي ساقتني لكتب في التفسير والقراءات والنحو وأصوله -تفصّل في حواشي البحث- أخرجتِ المكتوب، الذي أسأل الله أن يتقبله ويبارك فيه فينفع بقليله ببركته، وأدعوك قارئه أن تهديني عيبه، ولك تقديري وشكري.
المقدمـــة
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسـلام على النبيّ الأمين ، وعلى آلـه وصحبه أجمعـين .
وبعـد :
فإن التآليف والتصانيف في لغـة التنزيل بجميع مستوياتها ( نحواً وصرفاً ودلالة وبيانـاً ) تتوالى وتزدهر لا تتأخر - بحال - عن التآليف في علـوم القرآن الأخرى كالتفسير والفقه والقراءات ، بل تتحد معها وتأتلف مبرزة منزلة القرآن العظيمة الكامنة في مبناه ومعناه ، فلا غـرو – والأمر كذلك – أن تتبارى الأقلام وتُعمل العقول وتُشـحذ الهمم في اسـتجلاء كنه هذه العظمة ، وبيان ضروب ذلك الإعجاز في هذا النظم الفريـد . ونحسب ـ يقيناً ـ أن كل دراسـة إنما تشرف بارتباطها بالقرآن العظيم ، لا سيما إن كانت تؤصّل للغة بربطها بمنبعها الأصيل الصافي ، وإني لأرجـو أن تكون هذه الدراسة (( ورود الناسخ الحرفي " لعلّ " في القرآن الكريم دراسة تأصيلية في النحو والدلالة )) من الإضافات النافعة في هذا الباب.
أهمية الدراســة :
إن أهمية هذه الدراسة تبرز في البحث عن أسـرار عظمة هذه اللغة داخل سياقها الأصيل " النص القرآني " تأكيداً لحقيقة أن النّص القرآني يستوعب كل قضايا اللغة ، الأمر الذي يحتم على دارس القرآن الإلمام بلغته على اختلاف مستوياتها ليتدبره كما ينبغي .
أما مشكلة البحث:
فتكمن في الأسئلة الآتية :
أ- هل للناسخ الحرفي "لعلّ " خصوصية تميزه عن بقية النواسخ الحَرفية ؟
ب- كيف عُلّلت دلالة الرجاء لـ "لعلّ" في القرآن الكريم ؟
ج- ما الفرق بيـن ورود " لعلّ" في الشـعر العربي وبيـن وروده في النص القرآني؟
أما هدفُ هذه الدراسة :
فينصب في الإسهام في قضية التأصيل لهذه اللغة ، وذلك بربطها بالنـص القرآني تقييسـاً ، وتقعيداً ، واستشهاداً ، وذلك حفظاً لتراث هذه الأمة من الضياع بربطه بالنـص القرآني الذي تكفل المولى عزّ وجـل بحفظه .
الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد:
فقد نشأ النحو العربي في العراق في صدر الإسلام؛ لأسباب، ونشأ نشأة عربية على مقتضى الفطرة، ثمَّ تدرج به التطور تمشِّيًا مع سنَّة الترقي حتى اكتملت أبوابه، غير مقتبس من لغة أخرى، لا في نشأته ولا في تدرجه([1])
ولا أريد أن أتحدث عن واضعه وأسباب وضعه، وأطواره، فكلّه مبسوط في كتب النحو القديمة. ومهما يكن من أمر فلأبي الأسود الدؤلي الفضل في بدء الغرس الذي نما وازدهر على مرّ الزمان.
يبدو أنّ أوّل اختلاف وقع بين المذهبين (البصريّ والكوفيّ) كان قد ظهر وبرز فيما جرى في المجلس الذي عُقِد لأجل التناظر بين سيبويه والكسائي – على حسب ما وصل إلينا من مناظراتهم وأخبارهم ... يحتمل أن يكون أولاً هو اختلافهم في الإعراب، أهو حركة أم حرف؟ فلو كان الإعراب حرفاً ما دخل على حرف، وذهب الكوفيون إلى أنّه يكون حركةً وحرفاً فإذا كان حرفاً فإنه يقوم بنفسه، وإذا كان حركةً لم يوجد إلاّ في حرف.([2])
وبعد ذلك بدأ الاختلاف يستشري في النحو، ويتشعب بتضافر عوامل عديدة، جعلت النحاة يضطربون في تعقيد مسائل كثيرة.
جاء في (الاقتراح): أهل العصر الواحد إذا اختلفوا على قولين، جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث. هذا معلوم من أصول الشريعة، وأصول اللغة محمولة على أصول الشريعة.([3])
وأرى أنّ هذا الاختلاف يترك أثراً في المعنى، ومعلوم أنّ النحو يبحث في أواخر الكلمات، فيقال هذا مرفوع وهذا منصوب وهذا مجرور. قال السيوطي في "أسباب اختلاف النحاة": فالإعراب عند النحاة هو الحركات المبينة عن معاني اللغة، وهذه هي فائدته، فكان واضع اللغة حيث رأى الأسماء تعتريها المعاني- فتارة تكون فاعلة وتارة مفعولة وتارة مضافاً إليه وغير ذلك – جعل حركات الإعراب فيها تنبئ عن هذه المعاني([4])
وإن شاء الله تعالى سأتناول جانباً من الخلاف النحويّ في رتبة النواسخ (نواسخ المبتدأ والخبر) ومعموله وذلك لأنّ المقام لا يتسع لسرد كل الخلافات النحوية. وبالله التوفيق.
([1]) انظر نشأة النحو وتأريخ أشهر النحاة – الشيخ محمد الطنطاوي – ص10 – دار المنار – ط1 1991م.
([2]) انظر أسباب اختلاف النحاة من خلال كتاب الإنصاف لابن الأنباري – تأليف نوري حسن حامد المسلاتيّ – ص55 – دار الفضل للنشر – بنغازي – ليبيا – د.ت .
([3]) الاقتراح في علم النحو – جلال الدين السيوطي – علّق عليه د. محمود سليمان ياقوت – ص202 – كلية الآداب – جامعة طنطا – ط2006م.
([4]) أسباب اختلاف النحاة – نوري حسن – ص212.
مستخلص البحث
يهْدُفُ هذا البحثُ إِلى إِظهارِ أَهمِّ أسباب الخروج عن الأصول الَّتِي سنّها النَّحْوِيُّونَ للقواعد النَّحْوِيَّة، وقد رأينا -بعد إمعان النّظرَ في كتبِ النَّحْوِ كلها "قديمِها وحديثِها"- تعود إلى ما يتعلّق بالأصوات وطبيعتها المكوّنة لبنية الكلمة من نواحٍ، وإلى ما لا يتعلّق بطبيعة تِلْكَ الأصوات من نواحٍ أخرى.
وَلَعَلَّ المُتَأَمِّلَ في الدَّرْسِ النَّحْوِيِّ العَرَبِيِّ القَدِيْمِ يَلْحَظُ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ عندما بَحَثُوا أَسْبَابَ التَّحَوُّلِ عَنِ الأَصْلِ، الَّذِي يؤدّي إلى الخروج عن القاعدة فيُحدثُ اختلافاً وتعدّداً في أَوْجُه التَّحلِيل النَّحْوِيّ لبعض الصّيغ، ذكروا تِلْكَ الأسباب فِي أَثْنَاءِ الحديث عن مظاهر التّحوّل وصوره، دونَ أَنْ يفردوا كلَّ موضوعٍ مِنْهَا بحديثٍ مستقلّ مُبَيِّناً في ذلكَ كلِّهِ مكانَةَ النَّحْوِ وأثرَهُ -على اختلافِ أوجهِ تأويلاتِ النَّحْوِيِّيْنَ- في توجيهِ المعاني، وتعدِّدِ الأهدافِ، وتنوّعِ المقاصدِ، واختلافِ الدّلالاتِ.
الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد.
إن القيم الإنسانية من أهم ما تتوارثه الأمم من الآداب عامة والآداب العربية والإسلامية خاصة جيلا بعد جيل، لأن القيم والمثل الحقيقية لا يؤثر عليها مر الزمان وتعاقب الدهور، ولذا كانت الأديان السماوية من أهم ما يمثل تلك القيم لأنها تزكي روح المثالية، وتدعو إلي تحكيم العقل لاستيعاب كل ما هو منطقي تكريسا لدور الأمر الواقع، وتمهيدا لقبول كل ما يصون ويحترم العقل الإنساني، للوصول إلي جميع الحقائق المحيطة بالمجتمع البشري، والالتزام بفضائلها طواعية، وإنجاز أهدافها عن قناعة نابعة عن الفكر الإنساني، وتبنِّي منهاجها ورعايته بالحجة والبرهان، بفضل ما وهبه الله لعباده من عقول نيرة وفطرة سليمة.
ولما كانت تعاليم السماء هي أكبر موجه للمجتمعات البشرية، وأكثر القيم ثباتا أمام التيارات الحضارية والمتغيرات الثقافية، كان لا بد أن يكون لها المقدرة البرهانية علي التفوق النوعي بين زحام المثل غير الشرعية، والبروز المتميز أمام التحديات المنظمة، والصعاب والعقبات الموجهة.
إن أهم ما يمثل الرسالات السماوية خير تمثيل هم الرسل والأنبياء الذين وهبهم الله العصمة من الخطأ، لذا كان المنهاج الذي جاءت به الرسل هو المنهاج المثالي الذي يجب أن يلتزمه الناس من بعدهم، ولكن لا يخلو ذلك الالتزام من خلل أو زلل كما هي الفطرة المثالية عند البشر الذين جبلهم الله علي الخطأ إلا أن يتوبوا ويستغفروا.
ونحن في هذا البحث بين يدي تجربة للأدب الإسلامي في جانب المثالية والواقعية والالتزام، وسط أمواج عاتية من التيارات العصية من أذناب العصر الجاهلي، وذلك ما بين تحديات القرآن الكريم، ومعجزات سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبين رواسب آداب وأخلاق من بقايا الجاهلية.
مشكلة البحث:
تكمن مشكلة البحث في الوقوف علي المؤشرات الصحيحة لقراءة ميزان الأدب العربي والإسلامي أثناء الموجة العاتية في وجاهة الإسلام، بعد الزلزال القوي الذي داعب كيان الأدب الجاهلي، مما أكد علي التمايز الذي زاد من إرساء دعائم منهجية الإسلام في تصدره وقيادته للآداب والأخلاق في جميع أنحاء المعمورة.
أهمية البحث:
تنبع أهمية البحث من الضرورة الملحة للتنقيب في القيم الروحية العربية والإسلامية الراسخة في معالم الإنسانية، والتي كانت وما زالت الآلية النافذة التي كسرت حاجز الانسداد الأدبي والأخلاقي أمام التاريخ.
أهداف البحث:
يهدف البحث إلي الوقوف علي الإطار الحواري للأدب العربي والإسلامي من منابعه الصافية لاستعراض جدلياته وتوثيق أصوله، وإثبات حدوده المتمثلة في مُثُله وقيمه والتزاماته، وذلك عبر القيم الأدبية المنظومة شعرا، والمعاني الأخلاقية المرسومة نثرا، في ظل التوجهات القرآنية والتعاليم النبوية.
منهج البحث: منهج البحث هو الوصف والتحليل والنقد.
أسئلة البحث:
يركز البحث في الإجابة عن الأسئلة التالية:
مقدِّمـــة
الحمد لله الَّذي كان بعبادِه خبيراً بصيراً ، وتبارك الَّذي جَعل في السّماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، والصَّلاة والسَّلام على نبيّنا محمّد الَّذي بعثه الله تعالى وأرسله إلى العباد شاهداً ومبشراً ونذيراً .
أمَّا بعـــــد:
فإنَّ المعاجمَ تُعدَّ وعاءً لتـُراث الأمم، وخزائنَ تجاربها، ووسيلة ًمن وسائل حفظ تلك التـّجارب والحِكـَم، وتناقلها بين الأجيال، وهي قَـَبْلُ ذلك وبعده، من أهمّ الأوعيّة الّتي حَفظِت اللّغَة ، وأكثرها إعانةً في إحراز المراد . وحين تقصُر همََّّة المرء عن إدراك معنى ً من المعاني، أو إيصال فكرة ٍ للمخاطب، أو استيعاب مراد المُتكلّم أو حين يضيق إدراك المخاطب عن فهم مُراد مُحدِّثه ؛ فإنَّ الرّكون إلى المعجم ساعة ً، والبحث فيه يجعل ذلك كلـّه أمراً سهلاً مُيسّراً ، ولذلك اعتبرت العرب المعاجمَ جزءاً من أهم أجزاء دَيوان علومها تعود إليه بُغية استنطاقه لتستفيدَ من خزائنه المُفعَمة باللُّغات واللَّهجات والوقائع والسـِّير وكثير من الفوائد الَّتي اشتملت عليها، الأمر الَّذي جعل هذه المعاجمَ قبلة َ الباحثين والدّارسين لاستكمال ما بدأ عندهم من أعمال ، وحلِّ كلّ مُستشكل ٍمن علومِ اللـّغة .
ولقد وضعت المعاجمَ وألَّفَ فيها الجهابذة ُمن الأدباء، والحكماء واللّغويّين والمفسِّرين والبلاغيّين ، في مختلف العصور ؛ فازدهرت العلوم بتتابع التـّأليف في المعاجم ، وكانت معاجمُ اللّغةِ هي الأبرز والأشهر، حيث كتب فيها علماء منهم ابن فارس وابن سيده ،وابن دُريد والجوهريّ، والفيروز آبادي ، وابن بَرِّي وابن منظور، وغيرهم كثير، ولكلٍّ معجمُه الـّذي عُرف به .
ويُعدُّ لسانُ العرب لابن منظور من أهمِّ المعاجم الََّتي ملأت الدُّنيا وشغلت النَّاس، وهو بذلك من أوسعِ الكتبِ اللّغويّةِ انتشاراً وأكثرها استعمالاً ، وما ذلك إلاَّ
لأنَّه كتاب موسوعيّ جمع فيه صاحبُه ما تفرَّق في غيره من كتبِ اللُّغة الَّتي سبقتْه ولقد كان ابن منظور واقعيّاً عندما تحدّث عن قيمة معجمه هذا، بكلمة موجزة ، ذلك بقوله: "لنَّاقل عنه يمدُّ باعَه ويُطلق لسانَه ويتنوّع في نقلِه؛ لأنَّه ينقلُ عن خزانة"([1]).
وابن منظور ، مؤلِّف اللّسان ، وإنْ كان قد جاء على فترة ٍ من واضعي المعاجم إلاَّ أنَّه قد أحسن جمع المادَّة العلميَّة للكتاب ، وأجادَ الوضعَ ، وأتقنَ التـّـرتيب ، وأسهم إسهاماً جليّاً في صيانة اللـُغة العربيّة من عاديات الزَّمان، وأعطى اللُّغة َ، مع غيره من العلماء ، الحياة َوالحيويّة َوالقُدرة َعلى الاستمرار .
[1])) لسان العرب 1/19.