الحمد لله أنزل القرآن، مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، وتكفل بحفظه أبد الدهر، وصانه من التغيير والتبديل الذي اعترى ما سبقه من الكتب، وسلَّمه من التناقض والاختلاف الوارد على عمل البشر. وأفضل الصلاة وأتم السلام على من بعثه الله تعالى بالقرآن، هداية لبني الإنسان، (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)([1] ).
فهذا بحث عن هيمنة القرآن الكريم على ما سبقه من الكتب، وتصديقه لها، وائتمانه ورقابته، عليها يشهد بالصحة لأصولها من حيث أنها من عند الله تعالى، ويبين ما وقع فيها من التبديل وما طرأ عليها من التحريف على مر العصور والأزمان …
([1] ) مسند الإمام أحمد، باقي مسند الأنصار، برقم 24629..
اهتمت طائفة من قراء السودان بكتابة المصاحف ورسمها منذ أن انتشر تعليم القرآن في الخلاوي التي عمّت السودان في وقت مبكر من قيام دولة الفونج الإسلامية، وإلى وقت قريب وكانت المصاحف تكتب على رواية الدوري بقراءة أبي عمرو البصري، كما كان قليل منهم يكتب برواية ورش عن نافع ، وكانت كتابة المصاحف حرفة يعتمد عليها الشيخ في معاشه إذ كانت هذه المصاحف تكتب لمن طلبها وتباع له بقيمة تتناسب مع جودة المصحف، كما كان لبعض هؤلاء الشيوخ شهرة في كتابة المصاحف أمثال الشيخ ضرار الدنقلاوي، والشيخ آدم الحلاوي تلميذا الشريف محمد الأمين الهندي ، قال الشيخ يوسف إبراهيم النور في حديثة عن كتابة المصاحف : لقد بلغ في هذه الأزمان المتأخرة ثمن المصحف الذي كتبه الفقيه ضرار ، أو الفقيه آدم الحلاوي ـ وهما تلميذان للشريف محمد الأمين الهندي ـ بلغ ثمن مصحفهما خمسين جنيهاً وذلك لصحتهما وموافقتهما لقواعد الرسم والضبط ، كما حققه المتقدمون من شراح مورد الظمآن وضبط الخرازي ، وعقيلة أتراب القصائد([1]). وكانوا يكتبون نوعين من المصاحف نوعاً يسمونه بالمصحف (الفحل) ويعتبر هذا المصحف مرجعاً يرجع إليه عند الاختلاف في رسم كلمات القرآن وضبطها، ولا يستعمل إلاّ عند الضرورة وغالباً ما يكون بالخلوة الجامعة للطلاب من هذا النوع عدد من المصاحف يختار لكتابته غالباً لجنة من الشيوخ الماهرين في الرسم والضبط ، مع حفظ القرآن ، وجمال الخط والتدريب على كتابة المصاحف ،وخير مثال لذلك مصحف الشريف يوسف بن الشريف محمد الأمين الهندي الذي كتبه نخبة من تلاميذ والده البارعين في هذا المجال ومنهم الفقيه آدم الحلاوي الذي ورد ذكره من قبل، وقد كتب مائة مصحف قبل كتابته لهذا المصحف وغالباً ما يكتب في هوامش مثل هذا المصحف أقوال أئمة الرسم ونظمهم الذي يؤيد الحذف أو الإثبات في الكلمات القرآنية ، مثل الداني وأبي داؤود، ومن السودانين الشيخ عبد العاطي والشيخ حمد ولد مدلول والشريف الهندي والشيخ عبد الرحمن الأغبش الذي كان كثيراً ما يرجع إلى مؤلفاته والاستشهاد بها في هوامش تلك المصاحف ، خاصة كتابه عمدة البيان في رسم القرآن ، ومصباح الدجا في الضبط .
([1]) يوسف ابراهيم النور مجلة الضياء ص 83.
لقد وصل الإسلام والقرآن بلاد النوبة شمالي سودان وادي النيل قبل أيام ولاية الصحابي ( عبد الله بن سعد بن أبي السرح ) ( ت 59 هـ ) . وفي أثناء ولايته ، دارت بينه وبين ملك بلاد النوبة ( قَلَيْدَرُث ) معارك ، حالت بين دخول الجيش الإسلامي بلاد النوبة ، ولكن أبرمت أتفاقية بين الدولتين سنة ( 31 هـ ) وعرفت في المصادر بأنها معاهدة هدنة . (1) وقد اقتضى تطبيق هذه الاتفاقية من والى مصر وملك بلاد النوبة . أن يكون دخول المسلمين بلاد النوبة مصرحاً به ، أياً كانت صفة الداخل . ولما شع أمر الأتفاقية بين الناس ، بدأ المسلمون في مصر ، أفراداً وجماعات يتقاطرون على بلاد النوبة ، ومنهم التجار والحرفيون والفقهاء وحفاظ القرآن ، وبطبيعة الحال أن تكون مع بعض الفقهاء وحفاظ القرآن مصاحف مخطوطة . ولما كثرت أعداد المسلمين في بلاد النوبة ، واختلطوا بالتزاوج ، وبنوا عدداً من المساجد ، ألحقوا بهذه المساجد مدارس القرآن ( الخَلَوات ) . ودخول الدعوة الإسلامية في بلاد النوبة ، ورؤية المسلمين للمصاحف المخطوطة وانتشار الدعاة للإسلام في هذه البلاد . كل هذا بدأ أثناء خلافة عثمان بن عفان t .
(1) وعندما تشير إليها المراجع الإسلامية تذكر كلمة ( بقط ) والقاف والطاء حرفان مقتطعان من الكلمة اللاتينية ( PACTUM) ومعناها المعاهدة وقد انتقل هذا الجزء اللغوي اللاتيني إلى بعض اللغات الأوربية . وتارة يكتفون بـ ( PACT ) وتارة يستعملون ( agreement ) . وقد يتوهم بعض الكاتبين أن " بقط " هذه عربية اشتقاقاً ودلالة والصواب غير ذلك ، وهو أن أصل الكلمة لاتيني ، ودخل في اللغتين الأغريقية والرومانية ، ثم بعض اللغات الأوربية . ومما ينبغي الانتباه إليه ، أن كلمة ( بقط ) توجد في اللغة العربية وفي بعض اللهجات العربية ، بفتح القاف أيضاً . فتنطق الكلمة ( بَقط ) والحرف الأول في اللهجتين ( باء = B ) مع أن الحرف الأول في الكلمة اللاتينية ( P = ب) وهو صوت لا تعرفه أي قبيلة عربية . و ( بقط ) في اللغة العربية لا يدل على الأتفاق والتعاهد . لا بين فردين ولا بين دولتين . وله دلالات كثيرة . ومنها التفرق والتشتت ، وعليه قول الشاعر :
( رأيت تميماً قد أضاعوا أمورَها طوائفُ ) فَهُمْ بَقَــطٌ في الأرض فـــرثُ
المسألة التي نحن بصددها تتلخّص صورها في الآتي:
أمر الله تعالي نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقراءة القرآن كتابه العزيز إلى المخلوقين، فقال: (ورتل القرآن ترتيلاً)(1)، والأمر بذلك أمرٌ لأمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأثنى الله تعالى على عباده الذين يقرأون القرآن، ويؤدون الصلاة، ويخرجون الزكاة إخفاءً وإعلاناً فقال: (إن الذين يتلون كتاب الله، وأقاموا الصلاة، وأنفقوا ممارزقناهم سراً وعلانية، يرجون تجارة لن تبور، ليوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله، أنه غفور شكور)(2)، وبيَّن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجر قراءة القرآن في أحاديث شتى، منها قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)(3)، وطلب من المخلوقين التفكر في القرآن، وفهم معانيه، وذلك تمهيداً للعمل به، قال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا أياته وليتذكر أولوا الألباب)(1)، وذم الذين لا يتفكرون في القرآن، ولا يتفقهون فيه فقال(أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها)(2).
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين تلقوا القرآن من فيه الكريم غضاً ، وواظبوا على قراءته وتلاوته وعرضاً ، ونقلوه كما سمعوه ، ورعوه حق رعايته ، وعملوا بما فيه ، فنالوا بذلك الأجر العظيم ، والنعيم المقيم ، وسلم تسليماً كثيراً .
أمَّا بعد :
فعلم القراءات ذروة سنام العلوم القرآنية ، فهو أجلها قدراً وأرفعها منزلة ، لتعلقه بكلام رب العالمين .
فالقرآن ، والقراءات حقيقتان متغايرتان .
فالقرآن هو : الوحي المنزل بالإعجاز والبيان .
والقراءات هي : اختلافات الوحي المذكورة في الحروف وكيفياتها من تخفيف وتشديد ، وفتح وإمالة ، وتفخيم وترقيق وغيرها([1]) .
فإن الله سبحانه وتعالى اصطفى من عباده رجالاً مخلصين اهتموا بحفظ القرآن الكريم ، ومعرفة أوجهه وقراءاته .
فحفظ القرآن الكريم وتعليمه ، ومعرفة قراءاته ، فرض كفاية على الأمة الإسلامية – معناه : أن لا ينقطع عدد التواتر فلا يتطرق إليه التبديل والتحريف([2]).
وقد قيض الله سبحانه وتعالى علماء الأمة للتأليف في القراءات . فكان منهج القدماء منهم أن يبدءوا بأصول القراءات([3]) ثم يتبعون فرش القراءات([4]) .
واشترط علماء القراءات قبل عصر الشاطبي([5]) ، وبعده لطالب القراءات أن يحفظ كتاباً كاملاً في القراءات نثراً كان أو نظماً والشاطبي رحمه الله حفظ كتاب التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني([6]) ثم نظمه
([1]) اتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر ، تأليف عبد الغني الدمياطي ص7 .
([2]) المصدر نفسه ، ص7 .
([3]) أصول القراءات هي : قواعد مطردة تتكرر في سور القرآن الكريم في كل موطن لأداء النص القرآني ، كالمدود والقصر ، والإدغام والإظهار ، والفتح والإمالة ، وغير ذلك .
([4]) فرش القراءات هو : الكلام على كل حرف في موضعه من الحروف المختلفة فيما بين القراء لانتشار هذه الحروف في مواضعها في سور القرآن الكريم .
([5]) الشاطبي : هو أبو القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الشاطبي الرعيني الأندلسي ولد 538هـ بشاطبة وتلقى فيه القراءات وحفظ التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو الداني (ت 590هـ) . معرفة القراء الكبار 1/573 .
([6]) هو أبو عمرو بن سعيد الداني الأموي ولد سنة 371هـ بدأ بطلب العلم مبكراً ورحل إلى المشرق وأقام بالقيروان مدة ودخل مصر ثم حج ورحل إلى الأندلس ووصل قرطبة وقدم دانية ومات 444هـ . معرفة القراء الكبار 1/406 .
مقــدمة :
إن القرآن الكريم هو معجزة الله الخالدة ، التي أنزلها على خاتم أنبيائه ومرسليه عليهم السلام أجمعين ، ليخرج بها الناس من الظلمات إلى النور ، ومن الشرك إلى الهدى. والقرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي ، وهو أفضل الذكر يتعبد به المسلم في صلاته وفي تلاوته قربة إلى الله سبحانه وتعالى، ويتحاكم إليه في المحيا والممات .
وتدريس القرآن وتعلمه شرف عظيم ، وغاية عليا لا ينالها إلاّ من نال فضلاًَ من الله ورحمة . وتدريس القرآن شرف لمن يدرسه بإضافته إليه؛ كما نال المسجد شرفه من إضافته إلى المولى عز وجلّ (بيت الله)؛ وهكذا يحدث الشرف بالإضافة؛ كطالب جامعة القرآن الكريم الذي نال شرفه بإضافته إلى جامعة القرآن الكريم التي نالت شرفها بإضافتها إلى القرآن الكريم .
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً وأودعه أسراره وإعجازه وتحدى به أهل اللسان والتفكير على مر الدهور والأزمان ، وجعل عجائبه لا تنقضي وجعل لتلاوته حلاوة وعليه طلاوة وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد من قال له ربه : (وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)([1]) . فكان أفضل من رتل وأحسن من قرأ وخير من تلا ورضى الله عن الصحابة الذين اقتدوا به في ذلك وتناقلوه جيلاً جيلاً فرضي الله عنهم أجمعين ، ولعله من نافلة القول أن القرآن الكريم هو الكتاب العالمي في أحكامه وشرائعه وفي ترتيله وتلاوته .
([1]) سورة المزمل الآية 3
مقدمة :
الحمد لله القائل في محكم تنزيله ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) [ سورة الجمعة : 2 ] .
والصلاة والسلام على رسول الله e القائل ( ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة ) [i] . وفي هذا إشارة إلى أنه e يقول : إن معجزتي التي تحديت بها من أنكر ما جئت به ، هي هذا الوحي الذي أنزل علي ، وهو هذا القرآن العظيم ، لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح والبرهان القاطع . والقرآن معجزته العظمى الخالدة الباقية المستمرة إلى يوم القيامة لاشتماله على الدعوة ، والحجة ، والإخبار بما سيكون ، ولكثرة فوائده وعموم نفعه ، فهو روح وريحان وجنة نعيم للمؤمن ، يداوم على تلاوته وتحيى به روحه ، استجابة لأمر الله U القائل : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) [ سورة الأنفال : 24 ] .
مقدمة :
يتناول هذا البحث معاني الفضل الذي ورد في الآيات الكريمة العديدة ، و من ثم سوف يحاول الباحث أن يستنبط المعاني و المفاهيم الاقتصادية التي تحقق التنمية .
يقع البحث في ثلاث مباحث ، الأول سوف يتناول تفسير الآيات التي وردت فيها كلمة الفضل . وسوف يأخذ الباحث في هذا المبحث بأقوال المفسرين لهذه الكلمة .
أما في المبحث الثاني فسوف يتعرض الباحث إلى المفهوم الاقتصادي للفضل و الفضيلة و في المبحث الثالث سوف يتعرض الباحث إلى تجربه السودان في بناء مجتمع الفضيلة من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية ..
يقرأ ويتعبد أهل السودان بثلاث روايات : الدوري ، ورش ، حفص . وهي ثلاثة أرباع ما يقرأ ويتعبد به في العالم الإسلامي ، غير أن الرواية الأولى من حيث عدد الحفاظ وكثرة الخلاوي في السودان هي رواية أبي عمر الدوري عن أبي عمرو بن العلاء البصري وهذه الرواية معروفة بالإمالة والتسهيل والإدخال وغير ذلك من خواص هذه الرواية .
ولكني سأتناول الإمالة الصغرى كما هو عنوان هذا الموضوع .